منتدى مناهج النقد الأدبي المعاصر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى مناهج النقد الأدبي المعاصر

منتدى يعنى بمناهج النقد الأدبي المعاصر .
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 د. محمد خرماش أستاذ النقد الأدبي الحديث والمعاصر « أبعاد رومانسية وحداثية في شعر جبران خليل جبران »

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد خرماش
Admin



المساهمات : 44
تاريخ التسجيل : 29/05/2008
الموقع : أستاذ باحث

د. محمد خرماش أستاذ النقد الأدبي الحديث والمعاصر       « أبعاد رومانسية وحداثية في شعر جبران خليل جبران »      Empty
مُساهمةموضوع: د. محمد خرماش أستاذ النقد الأدبي الحديث والمعاصر « أبعاد رومانسية وحداثية في شعر جبران خليل جبران »    د. محمد خرماش أستاذ النقد الأدبي الحديث والمعاصر       « أبعاد رومانسية وحداثية في شعر جبران خليل جبران »      Emptyالأحد مارس 03, 2013 4:04 am

بسم الله الرحمن الرحيم
د. محمد خرماش
أستاذ النقد الأدبي الحديث والمعاصر
mkharmach@hotmail.com

« أبعاد رومانسية وحداثية في شعر جبران خليل جبران »
تقديم : لا يمكن أن نتحدث عن جبران خليل جبران ولا عن الرابطة القلمية حديثا وافيا وشافيا في صفحات قليلة ومحدودة ، ولذلك اخترنا أن نستطلع بعض الأبعاد الرومانسية والحداثية في شعره مما له علاقة بالمنظور العام للرومانسية، وبمفهوم الحداثة والتحديث الداعيين إلى احترام الإنسان وإلى البحث الدائب عن قيمه المفقودة ؛ وهو ما استلزم أن نركز على جانب الرؤية المحتضنة لهذه الأبعاد كما نقرأها في أشعاره ، من خلال موضوعات الرجوع إلى الذات والاغتراب عن العالم والتعلق بالمطلق والبحث عن الحقيقة وما إلى ذلك ، وأن نمهد بتوطئة وجيزة عن فلسفة الرومانسيين وقناعة الحداثيين ، وعن نقط الالتقاء التي آمن بها جبران فشكلت رؤيته للعالم بما فيه الإنسان ورؤيته للفن بما فيه الشعر.
ـ الرومانسية ومثالية الأدب : ظهر التوجه الرومانسي في إنجلترا وألمانيا ثم في فرنسا على يد بعض الكتاب الذين عاشوا هناك أمثال « شاتوبريان Chateaubriand » و « مادام دوستايل Mme De Stael » ؛ ويمكن القول بأن هذا التوجه قد تولد عن الظروف التاريخية المحيطة التي عاشتها أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، ومن ثم اعتُبر بمثابة الحالة النفسية العامة المتنكرة للمؤسسات القائمة والداعية إلى تحرير العبقرية البشرية من صرامة الأصول وقسوة القواعد وإطلاقها على سجيتها الصافية ، ولذلك لم يكن أحد يرغب في أن يُعَرِّف الرومانسية تعريفا دقيقا محدودا ، فكتب « ألفريد دي موسيه Alfred De Musset » مثلا على لسان بعض شخوصه متحدثا عنها بقوله : « … إنها النجمة التي تبكي ، والريح التي تئن ، والليل الذي يرتعد ، والزهرة التي تتضوع ، والطائر الذي يحلق … إنها الأمل الوردي، والحب المتعدد ، والرداء الأبيض الذي يكسو الصفصاف ، كم هي جميلة يا سيدي …! » .
وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على عدم القصد التقعيدي وعلى التشوف إلى الامتزاج بصفاء الطبيعة وجمالها الذي يعكس صفاء الأصالة والنقاوة والبراءة ، ومع ذلك فقد بلور التوجه الرومانسي وبطريقة عملية أو تلقائية بعض الملامح التي ميزته في مجال الفن والأدب مثل « اللون المحلي » و « النغمة الخطابية » و « الإبداع » الذي يوظف الخيال المبتكِر الجامع بين ذكريات الماضي السحيق وإرهاصات المستقبل البعيد ، والضابط في كل ذلك ليس أكثر من قوة الرؤية وعمقها في مجال التجربة البشرية الصادقة . ولم تعتمد الرومانسية إجراءات العقل الصارم مثل غيرها، وإنما استبدلت به العاطفة والإحساس وأسلمت القياد للقلب الذي اعتبرته منبع الإلهام ومصدر القوة المميزة بين الخير والشر ، وبين القبح والجمال ، فراعت الفروق الفردية وتجنبت مفاهيم النمذجة وطرح الحقائق العامة ، ودعت إلى الرأفة بالجنس البشري كله وإلى الإشادة بالحياة الفطرية الوديعة ونشر العدل والعدالة في جميع الأوساط وبين جميع المخلوقات . ولقد اتخذت الرومانسية من الفن عامة ومن الشعر خاصة وسيلة للتعبير عن الذات وعن القيم الأصيلة ، واعتبرته مجالا لإبراز المشاعر النبيلة والرؤى العميقة مادام الفن رجعا لصدى الحقيقة في الحال والمآل، وقد عرَّف « لامرتين Lamartine » الشاعر بأنه « رُبان السفينة البشرية ، يقوي الضعفاء وينير الجهال ، ويقدم الأفكار السامية في العدل والشفقة والحقيقة » .
فالفن إذن هو قمة جبل « جلجلة » التي تلتقي عندها طرق الحق والحقيقة وعليه أن يتنزه عن المطالب الدنيا والدنيئة ويمتح من أصالة وفنية وإتقان لكي تجد فيه الإنسانية سعادتها التي تبحث عنها دائما وأبدا .
ورغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى « التفكير الرومانسي » فقد استقى منه العرب وغيرهم ( وربما لا يزالون ) الكثير في حركاتهم المجددة في الأدب وفي الحياة ؛ الأمر الذي يلتقي مع التوجهات الحداثية في كثير من جوانبها .
ـ إشكالية الحداثة والتحديث: يرتكز مفهوم الحداثة هو الآخر على منطق التغيير والتغير المستمرين في مجال الفكر والسياسة والعلوم والاقتصاد والاجتماع والإدارة وما إلى ذلك ، وهو ما يجعل من الحداثة رؤية حضارية مغايرة ومعارضة للرؤية التقليدية ، ومن ثم فهي أيضا مشجعة على الإبداع الطلائعي وعلى المبادرات الفردية وحرية العمل وفق المتغيرات الحاصلة في الأنظمة المختلفة وفي العلاقات العامة والخاصة ، مما له علاقة بالأزمات التي عرفها ويعرفها الإنسان الحديث والتي تدفعه إلى خوض غمار التجريب في كل شيء كي يفرغ الماضي البعيد في الحاضر المرير من أجل المستقبل السعيد . وقد تكون صدمة الحداثة عنيفة على بعض الأفراد والجماعات والمجتمعات لما في الأمر من مفارقة قاسية وعجيبة بين التطلع إلى التحرر والتقدم والتطور واكتساب المعارف التي تكسب القوة والازدهار، وبين ما قد يرافقها من تهديد للمقومات السَّنَدِيَّة ، ومن ثم نشأت ديناميكية توفيقية من أجل استجلاب آليات التغيير المقبولة مع الإبقاء على شعرة معاوية بين القديم والجديد . وقد شملت هذه الحركية جميع القطاعات بما فيها الفنون والآداب التي تشكل محفلا مناسبا لتمرير القناعات مهما تداخلت إحالاتها وتعددت مرجعياتها، وخاصة بعد أن تبلورت مفاهيم جديدة في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأصبح من المستحيل أن تعود وضعية اليوم إلى ما كانت عليه بالأمس لأن العناصر الطارئة تدخل في صميم التركيبة الجديدة فتحولها إلى شيء مغاير وإلى قوة دفع ممكنة ومفيدة لعجلة التطور التي لا تتحرك إلا إلى الأمام .
لقد شكلت الرومانسية الحالمة منبعا ثرا للحداثة الحائرة ، وكما الغرب القلق فقد شهد العالم العربي المضطرب أحداثا ونكبات وعاش أهله إحباطات لا تنتهي ففقدوا الثقة في المؤسسات القائمة وانكفأوا على أنفسهم يبحثون في الأعماق وفي الآفاق عن الجوهرة المفقودة ، عن آدمية الإنسان ، عن كرامته وعن حقيقته ، فوجدوا في المنظور الرومانسي مناخا دافئا متحررا ، ووجدوا في التطلعات الحداثية إغراءات وملاذا .
وكان المهجريون ممن حملوا باكرا بذور هذه الرؤية المؤنسنة التجديدية، فاستطاعوا تنميتها في محضن الرابطة القلمية ، واستطاعوا بما توفر لهم من حرية هناك أن يجهروا بأصواتهم وبآرائهم وقناعاتهم في الأدب وفي الحياة بعيدا عن حصار السلطات الثقافية والسلطات الأمنية والسلطات التاريخية وما إلى ذلك .
وكان جبران خليل جبران من أنشط الأعضاء الذين استماتوا شعرا ونثرا في الدفاع عن حق الإنسان في إنسانيته وفي وجوده وفي عالمه النظيف ، فكتب عن الحرية وعن العدالة وعن الحق والحقيقة في لمسات رومانسية طافحة وتأملات فلسفية عميقة متأثرا بكل الذين قرأ لهم أو اتصل بهم من المفكرين والشعراء والفنانين أمثال « نيتشه Nietzsche » و « أوكست رودان A . Rodin » وغيرهما ، وقد لخص بنفسه تلك الانشغالات والاشتغالات بمثل قوله : « أشغالي كثيرة وأحلامي عظيمة ومطامعي هائلة مخيفة ... » . ولذلك نقتصر الآن على تسجيل بعض الأبعاد الرومانسية والحداثية في شعره من خلال « تيمات » الذات والعالم الكائن أو الذات والعالم الممكن مثلا.
إن الروح الرومانسية روح قلقة متمردة وبالأحرى إذا كانت روح شاعر فيلسوف في مثل حساسية جبران وتصوراته البعيدة في البحث عن الذات التي لم تعد مطمئنة في هذا العالم البئيس ، وفي هذه الأوساط المتعسفة فيجرد من نفسه شحرورا يساجله ويتمنى عليه :
أيها الشحـرور غـن واصرف الأشـجـان عنـي
إن في صوتك صوتا نـافـخـا فـي أذن أذنــي
ليتني مثـلـك حـر مـن سـجــون وقـيــود
ليتني مثـلـك روح فـي فضـا الـوادي أطـيـر
أشرب النور مدامـا فـي كـؤوس مـن أثـيـر
إن لأذن الشاعر أذنا تنصت إلى الصوت البعيد ، ومصادر المعرفة لديه أسمى وأدق مما هو متعارف عليه ، ولذلك يود أن يعتق من القيود الحسية والسلطوية كي يحلق في عوالم أثيرية مرحة يستطلع فيها ببصيرته وشاعريته ما لا تدركه الحواس العادية ؛ ومن ثم نغمة التشكي والتمني والدعوة الضمنية إلى تغيير مفهوم الشعر والشاعر وإجلال مقامه في البحث عن الحق والحقيقة من أجل استرجاع المكانة المثلى والصورة الحسنة التي ضاعت عبر تقلبات الزمن وعواديه . وقد لا نقدر أهمية مثل هذا البعد الأنطولوجي في رؤية جبران ما لم نؤطره في سياق التوجه الرومانسي الذي لم يكن يقتنع أو يكتفي بما تحققه المنجزات العقلانية والعلموية التي لم تستطع رغم أهميتها في مجال الواقع والطبيعة المحدودة ، أن تجنب الإنسان الحديث ( المعاصر) ويلات الحروب والدمار والتسلط والاستغلال، فطمح ( ويطمح ) إلى اكتشاف حقيقة أخرى في عالم آخر قد يكون هو عالم النفس وعالم القلب وعالم الحدس أي عالم الإنسان، ولذلك أشار أحد زعماء الرومانسية في فرنسا إلى أنه قد يكون « ثمة عالم باطني جديد يمكن أن يكتشفه يوما كولمبوس آخر مُغرم بما وراء الطبيعة » . ويرجِّعه جبران بقوله : « أنا كولمبوس نفسي ، وفي كل يوم أكتشف قارة جديدة فيها » . والشعر طبعا هو لغة هذه النفس وهو المَعْبَر إليها والمعبِّر عنها، ولذلك ينبغي أن يخرج من حد الصنعة والصناعة إلى فيض القلب وخفق الجوانح وهو المنظور الجديد والتجديدي في الشعر الذي ينبغي أن يلبي « الحاجات » المنشودة في الغاية وفي الوسيلة ، في التعبير وفي التبرير ، ولن يتأتى ذلك بالطبع إلا بالتغيير ، تغيير آفاق الانتظار وتغيير المسافات الجمالية في النصوص وفي النفوس، وهي عملية تبدأ ، كالعديد من الآمال الكبيرة ، بالأحلام والخيالات التي تفتح
أبواب المجهول وتتكلم لغة الصور والاستيهامات. كما في النص التالي الذي يحلق فيه جبران في فضاءات جد معبرة :
« في الحلم رأيت شحرورا يغرد فوق فوهة بركان ثائر
ورأيت زُنبقة ترفع رأسها فوق الثلوج
ورأيت حورية عارية ترقص بين القبور
إلى أن يقول : في اليقظة رأيت الحزن والأسى فأين ذهبت أفراح الحلم ومسراته ؟
وكيف تتجلد النفس حتى يعيد النوم أشباح أمانيها وآمالها »
إن عالم الحلم إذن ملاذ آمن فيه تجد الذات ذاتها ، وفيه تتعايش المتناقضات وتتحقق المعجزات ، فيه يغرد العصفور / الشاعر الصداح فوق فوهة الواقع المضطرب وتنبت الزنبقة رمز المحبة والجمال والحياة المتجددة رغم صقيع الحرمان والمعوقات ، فترقص الحياة فوق الممات … أما عالم اليقظة أو العالم الكائن فهو من القسوة والجفوة والكدر بحيث لا يدعو إلاَّ إلى الهروب والتمرد وطلب التغيير. والحلم الإبداعي أو حلم الشاعر كحلم النائم تكثر فيه العوامل المساعدة على تحقيق الآمال والرغبات وتقل فيه المثبطات والمعوقات وعوامل القهر والتعسفات ؛ ولذلك تجد فيه الذات الرومانسية من المسرات والملذات ما لا تجده البتة في عالم اليقظة المقرف العبوس ! فالكون البريء إذن والكون الجميل المقبول هو كون النفس وكون الشعر وكون العاطفة والخيال والانفعال ؛ أقرع باب القلب ـ كما يقول ألفرد دوموسيه A . DE Musset ـ : « ففيه وحده العبقرية وفيه الرحمة وفيه الحب والعذاب وفيه صخرة صحراء الحياة ، حيث تنبجس أمواج الألحان ـ يوما ما ـ إذا مستها عصا موسى » .
ولا تنطلق الأحلام إلا حينما يرخي الليل سدوله ، ويستكين الشاعر إلى عوالم نفسه يرجِّع صداها ويعيش نبض الحياة بين ثناياها :
سكن الليل وفي ثوب السكونْ تختبـي الأحلام
وسعى البدر وللبدر عيـون تـرصد الأيـام
فتعالي يا ابنة الحقل نـزور كرمـة العشـاق
علنا نطفي بذيـاك العصيـر حرقـة الأشـواق
إن الليل يحمل الشاعر إلى دنيا الأحلام والانعتاق حيث تسبح روحه بين الأفلاك فترتوي بالحب والاطمئنان ، وهي الوظيفة الجديدة لمفهوم الليل في خطاب الشعر والإلهام .
وهكذا تخلق الذات الرومانسية في شعر جبران مسافة شاسعة بينها وبين الوعي الشقي في العالم الكائن ، وتعلن عن القطيعة مع الواقع الموتور بحثا عن العالم النقي و « معانقة الأبدية » كما يردد جبران . وليست هذه القطيعة قطيعة روحية فقط ، بل هي قطيعة معرفية وقطيعة أنطولوجية تمس الكينونة كذلك ، لأن الناس وبما درجوا عليه في زمانهم الرديء قد ألفوا الاستسلام وتعودوا على الخضوع وساد عندهم الاقتناع بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ؛ لكن الشاعر قوة من قوى البعث تريد أن يفهم الناس معنى الحق والخير والجمال وأن يعملوا من أجله .
وأفضل العلم حلم إن ظفرت به وسرت ما بين أبناء الورى سخروا
فإن رأيت أخا الأحلام منفردا عن قومه وهـو منبـوذ ومحتقـرُ
فهو النبي وبُرد الغد يحجبـه عـن أمة برداء الأمس تأتــزرُ
إن ما يحلم به الشاعر / النبي هو الرؤية الصحيحة القائمة على معارضة الشائع من الأعراف والقيم ومناهضة السائد من « الأوهام » دون مبالاة برد الفعل الساذج البسيط القائم على الجهل بالحقيقة الجوهرية وعلى الركون إلى ما يُخمد جذوة المطامح العليا من التراكمات العتيقة المكبِّلة للإرادات والمبلِّدة للاحساسات . وقد استقر في يقين الشاعر أن البحث عن شكل جديد للوجود مطلب أساسي به تسترد الإنسانية إنسانيتها وتتخلص مما أرهقها ويرهقها ، سيما وجبران قد شهد الأحداث العصيبة التي مر بها العالم العربي وعايش معاناة الشعوب في مختلف الأطوار، كما عايش التحولات المفروضة التي أعادت طرح الأسئلة وأعادت النظر في كثير من القضايا مثل قضية « الهوية » وقضية العلاقة مع الآخر وقضية التلاؤم مع متغيرات العصر وما إلى ذلك .
إنه باب الحداثة والتحديث الذي أدى بالرومانسيين العرب ومنهم جبران إلى تعبئة طاقاتهم الشعرية لتحقيق الانسجام مع المسيرة ومع الذات بحثا عن وجود واضح ومستتب بعيدا عن القلق والعسف والإحباطات والفشل . إنه وعي الذات بالذات والدخول بها فنا وفكرا وشعرا إلى مرحلة الحداثة والتجريب عن طريق الهدم والبناء ، هدم عالم الزيف والشقاء ، وبناء عالم الحقيقة واليقين وهي المعادلة الصعبة التي أقام عليها جبران وكل الرومانسيين رؤيتهم في التغيير والإصلاح والتطوير، بدءاً بتجديد الشعر ذاته ووصولا إلى تجديد الحياة كلها . وقد عبر جبران عن ذلك حينما سأل الشاعر : « أ شاعر أنت يطرب الطنبور أمام أبواب الأمراء وينشر الأزهار في الأعراس ويسير وراء الجثث الهامدة ... أم موهوب وضع الله في يده قيثارة يستولدها أنغاما علوية تجذب قلوبنا وتوقفنا متهيبين أمام الحياة وما في الحياة من الجمال والهول ؟
إن كنتَ الأول فأنت من المشعوذين الذين لا يُنبهون في نفوسنا سوى عكس ما يقصدون … وإن كنت الثاني فأنت بصيرة مشعشعة وراء بصرنا ، وشوق عذب في قلوبنا ورؤيا ربانية في غيبوبتنا » .
وقد تساءل ميخائيل نعيمة في « الغربال » عن سبب ثورة جبران على التقاليد الأدبية والاجتماعية ، فقال بأنه : « رأى الشعراء ينطقون بما لا يشعرون ، والخطباء يتكلمون لا حبا بإبراز فكر أو بث دعوة ، بل حباًّ بالكلام ، فوجد نفسه دولابا يدور يُمنة بين دواليب تدور يسارا » .
فمدار القضية إذن في الخلاف والاختلاف في الشعر وفي غير الشعر هو محاولة زعزعة الأعراف الجامدة التي قعدت بالإنسان عن بلوغ منزلته الحقيقية وإقامة رؤية حضارية تفتح بصيرته وتنير طريقه إلى الحق والخير والجمال ، بأساليب جديدة ومناسبة لأن « الأدب والحياة توأمان لا ينفصلان » كما يقول نُعيمة أيضا . ولأن الذي يصنع أثوابه من رُقع يجزُّها من أثواب من تقدَّمه ... تظل حياته كرجع الصدى ويبقى كيانه كظل ظليل لحقيقة قَصِيَّةٍ لا يعرف عنها شيئا ، كما يقول جبران نفسه » .
إن ثقة جبران بمن يسميهم « أبناء الغد » أو « الذين نادتهم الحياة » كبيرة جداًّ ولئن كانوا فئة قليلة فإن في « الغصن المزهر ما ليس في غابة يابسة » .
وعلى أي فقد قرن جبران ـ وأصحابه ـ الشعر بالحياة وبحثوا على مستوى الشكل والمضمون عما يحقق كفاءة الأداء ويستوعب الرؤية التجديدية المتفتحة على مطالب العصر ومطالب الإنسان ومطالب الحياة ، فخرجوا على النسق المألوف وابتدعوا ظواهر في الشعر وفي الفهم وكان لهم كيان له ما بعده .
إن الأبعاد الرومانسية في شعر جبران تتمثل في تكامل الرؤية بين الشعر والحياة بين الشاعر والفيلسوف بين الحلم والخيال بين العقل والقلب بين الأسطورة والتاريخ بين الحقيقة والرمز ، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة ، بين الوعي ووعي الوعي ، بين النفس والخلود ، أي بين الذات والعالم أو بين الإنسان والكون ، أما ملامح الحداثة فتتمثل في القفز على المعتاد وابتغاء الجديد في المنظور وفي الصياغة، في محاولة إلغاء المتناقضات وكشف الحجب والتحليق في الآفاق البعيدة درءاً للزيف والمغالطات وبحثا عن السمو وتحقيق الحقيقة . لقد كره جبران التقيد بالنموذج القار وثار على القوالب الجاهزة فبنى عالمه البعيد الذي تشق الرحلة إليه، ولكن لا ينقطع الأمل فيه . وقصارى القول فهو كما قال :
« صوت ينبه الحياة النائمة لتسير وتنتشر وتملأ وجه الأرض » .
وفي النتيجة يمكن القول بأن جبران كان سباقا إلى ما تقول به بعض المدارس المعاصرة من أن المعرفة الحقة ليست في الفصل بين الذات والموضوع ، وإنما في التفاعل القائم بينهما ، لأن الإنسان مركز الثقل وأن الضوابط الصارمة تحجب كثيرا من القوى والملكات الكامنة فيه كالخيال والحدس والحلم والفهم ، وأنه لا بد من إعادة الثقة به وله كي يستعيد الكون تناغمه وتستعيد الحياة قيمتها ومعناها . فالحقيقة واحدة وإن تجلت في مظاهر شتى ، وهو ما يسوغ ربط الحداثة بالرومانسية وربط الرومانسية بصيرورة الإنسان وربط الإنسان بالمطلق والأبدي ! ولعله من غير المبالغة في شيء القول بأن المثقفين العرب قد وجدوا في الرومانسية الوافدة وفي آثار جبران وصحبه ما يساعد على استحداث تصور مغاير لعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالكون ، وعلى إيجاد صيغ تعبيرية تستجيب لحاجات اليوم المختلفة عن حاجات الأمس كثيرا .

د.محمد خرماش
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://manahijnaqdia.yoo7.com
 
د. محمد خرماش أستاذ النقد الأدبي الحديث والمعاصر « أبعاد رومانسية وحداثية في شعر جبران خليل جبران »
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى مناهج النقد الأدبي المعاصر :: الفئة الأولى :: مناهج نقدية-
انتقل الى: